تشكيل الحــيز المعــمارى فى عصر المــماليك: التعبير ودلالته (2)
(مراجـعة)
Howayda al-Harithy, 2001. The Concept of Space in Mamluk Architecture. Moqarnas Vol. XVIII. http://ArchNet.org/library.
نشأت المجمــعات الحضرية فى عصر الممــاليك على برنامج دينى اجتـماعى يتركز حول العلاقات الجمــاهيرية وله اهداف ثقافية واجتمــاعية وسياسية يعكسها التـصور المعمارى . اضـــافة الى وظائفـه الدينية والتعليــمية صـــار للمبنى رســالة بصرية تعكس مضـمون التصور المعـــمارى ويعبر عنها الشكل المعـــــــمارى . من افضل ما قرأت فى تفـــــسير دلالة الحــيز الحضـــرى فى عمــــارة الممـاليك ما كتبته Howydah al-Harithy فى مقال لهـا بعــــنوان : ''The Concept of Space in Mamluk Architecture'' .
هناك مجموهة من العوامل الثقافية والاجتماعية والسياسية تكون فى مجموعها التصور المعمارى الذى يمثله الشكل المعمارى بمعناه العريض الذى يشمل البـــناء التشكيلى كله بما فيه الحيزات المعــــمارية والحيزات الحضرية فى المحيط المــــباشر . يتطلب فهم دلالة ما تمثله الحيزات المعمارية ايجاد علاقة بين شكل الحيزات ، واسلوب تجميعها وحركة المناشط فيها . تعتمد هذه العلاقة على دراسة اثر العوامل الثقافية والاجتماعية والسياسية الدافعة لابتكار تلك الحيزات ، والمحددة لشكلها واسلوب تجميعها ، والمحركة للمناشط فيها . يتعرض مقال al-Harithy بالتحليل لاثر هذه العوامل على شكل الحيزات واسلوب تجميعها واتجاهات الحركة فيها ، وتستعين بذلك على توضيح اسلوب الحيزات المعمارية والحضرية فى التعبير عن فلسفة التصور المعمارى . كتب المقال باسلوب انسيابى لا يتوقف عند حدود اقسام معينة او عناوين جانبية تعين الدارس على تتبع التحليل بسهولة ، ولكنه فى ذات الوقت اسلوب يشبه السرد القصصى و لا يخلو من المتعة للقارىء . تقول الكاتبة:
" أن تعددية وظائف المجمع الحضرى وموقع الضريح فى قلب المدينة هما العنصرين الاساسيين فى سيناريو ابداع الحيز المعمارى . بالنظر الى مواقعها فى قلب المدينة بكل ما فيها من حياة ، ووظائفها المتعددة صارت المجمعات الحضرية ساحات للعلاقات الاجتماعبة المكثفة . فيها يتم الاتصال واللقاء بين مختلف الفئات الاجتماعية من الطلاب والشيوخ والتجار واصحاب الحاجات والنخب من العسكريين المماليك ."
كان من الطبيعى ان يؤدى تدفق العلاقات الاجتماعية فى المجمع الحضرى على هذا النحو الى تولد تيار من الحركة بين المبنى وجواره الحضرى ، فتنشأ بينهما علاقة متبادلة فى اتجاهين: الاول ، نحو الداخل وهو تأثير الحركة فى الشارع على وظائف المبنى داخليا ؛ والثانى ، باتجاه الخارج، وهو تأثير المبنى نفسه على الحيز العام . تبرز اهمية هذه العلاقة المزدوجة فى اثرها على شكل الحيزات الداخلية والخارجية واسلوب تجميعها . ينظر هذا الجزء الى العلاقات الوظيفية وحركة المناشط ويتتبع اثرها فى ربط الحيزات الداخلية والخارجية وفى العلاقة العضوية والبصرية المتداخلة بينهما .
" نتيجة لتعدد وظائف المجمع الحضرى ، اصبح الحيز المعمارى الداخلى امتدادا للحيز العـام فى الشارع ، بينـما يبرز الضريح الى الخارج ويحقق اكبر قدر من الظهور فى الحيز العـام والتفاعل معه . وادى هذا التفاعل الوظيفى بين المبنى وجواره الحضرى الى توحد الحيزات فيهما فى وحدة تشكيلية واحدة ."
ادى التفاعل الوظيفى بين المبنى وجواره الحضرى الى ابعد من مجرد دمج الحيزات فى وحدة تشكيلية واحدة فقط ، بل تعدى ذلك ليشمل توحد الواجهات الداخلية والخارجية ايضا . نسبة لطبيعة مواقع المجمع الحضرى فى قلب القاهرة فى العصور الوسطى والقيود التى تفرضها على التصميم كان الخيار المتاح هو اللجوء الى المخطط المفتوح الى الداخل واستخدام صيغة الفناء فى بناء المجمعات الحضرية . الملاحظ ان المعمارى فى عصر المماليك اتبع تقاليد كانت سائدة من قبل فى التعامل مع الواجهات الداخلية . كان الاهتمام فى المبانى السكنية منذ العصور الاسلامية المبكرة بالواجهات الداخلية المطلة على الفناء اكثر من الواجهات المطلة على الشارع ، وذلك ضمن استراتيجية فصل الداخل فصلا تاما عن الشارع لدواعى الخصوصية . فى مجمعات المماليك الحضرية صار التوجه نحو التعامل مع الواجهات الداخلية المطلة على الفناء باعتبارها ليس فقط امتدادا للواجهات الحضرية بالخارج ، بل جزء اساسيا فى البناء التشكيلى للمجمع الحضرى .
المعروف ان وظائف المبنى هى المحدد الرئيسى للشكل المعمارى . فى العمارة الاسلامية ليست الوظائف العادية المتعلقة بالمناشط الاجتماعية مثل التعليم والعبادة وغيرها فقط هى المسئول عن تحديد الشكل المعمارى ، بل ان وظيفة التعبير عما تمثله الحيزات المعمارية ، التصور المعمارى ، يلعب دورا اساسيافى تحديد شكل تلك الحيزات .
سـاد فى عصر المماليك اشــــكالا متنوعة من الحيزات مهـمتها ، الى جانب الربط بين الاجزاء ، ان تبعث برســـالة بصرية تعبر عن مضــــــمون التصور المعــمارى . اول هذا النوع من الحيزات هو ما تسميه al-Harithy "الجيب الحضرى" وهو عبارة عن تغير فى مجرى الشارع المحدود يحدث فيه اتساعا يقع بين ضفتى المبانى على جانبى الطريق يواصل الشارع بعدها مساره من جديد . لم يكن الشارع فى المدن الاسلامية فى العصور الوسطى مستقيما بل كان مألوفا ان يعترض مسارة انحناء طارئا يغير اتجاهه وشكله واتساعه . الجيب الحضرى الذى يعترض شارع المعز عندما يمر بموقع مجمع قلاوون مثل ذلك وهو احد وسائط التعبير فى عمارة المماليك ، من اغراضه توجيه الحركة نحو المدخل الرئيسى و تهيئة حيزا مناسبا للتواصل الاجتماعى .
الجيب الحضرى الذى تشكل امام مجمع قلاوون عبارة عن ساحة صغيرة " ...تكتسب خصائصها الحضرية من البناء التشكيلى على ضفتيها ومن تعبير واجهات مجمع قلاوون على جانب من الشارع وواجهة المدرسة الصالحية المقابلة لها على الجانب الآخر ، وتكتسب خصوصيتها من احتوائها بين هذين الصرحين التذكاريين ."
لم تكن الواجهة فى عمارة المماليك مجرد غلاف للمساحات الداخلية بل جزء لا يتجزء من ابداع البناء التشكيلى . هناك علاقة قوية بين واجهة المجمع الحضرى فى عصر المماليك التى تستمد خصائصها المتميزة من طبيعة هذه المبانى ذات الوظائف العامة المتنوعة ، ومواقعها فى قلب القاهرة الفاطمية بكل ما فيها من حيوية الشارع المصرى وحركة الناس والسوق . تشير al-Harithy الى هذه العلاقة باعتبارها العامل الاكثر فاعلية فى تشكيل الواجهات فى مدينة المماليك كجزء من النسيج الحضرى . ينظر الى هذه الواجهات كجزء من العلاقات التشكيلية المركبة التى تنشأ فى المحيط الحضرى بين واجهات المبانى والحيزات الحضرية التى تتكون من الشارع او الفسحات بين ضفتى هذه المبانى والتى يمكن ان نسميها المشهد الحضرى .
" تعد واجهة مجــمع السلطان قلاوون (1285-1284) نموذجا من هذا النوع من الواجهات التى تشكل اندماجا فى النسيج الحضرى والتى تنشىء حوارا تشـــكيليا مع الجوار الحضرى . واجــهة مجمــع قلاوون هى جزء من امتداد تشــكيلى واســــتمرار بصري لمدرســة الملك الصالح نجم الدين (1244-1242) ومدرسـة الظاهر بيبرس فى الجانب الآخر من الشارع ، والتى يوحدها تشابه تعبيرات الواجهة فى المبانى الثلاثة ويجعلها وحدة تشكيلية متجانسة ."
تقارن al-Harithy بين الواجــهات ذات الحركة الديناميكية فى عمارة الممــاليك وبين الواجهات الســاكنة والتى يغلب عليها التمــاثل المحورى فى عمارة الفاطميين . فى المقابل حلت واجهات الشارع ذات الاستمرارية والتشكيل المتحرر من قيود التماثل المحورى فى عصر المماليك محل الواجهة التقليدية المستقلة ذات الابعاد التذكارية فى عمارة الفـــاطميين . افضل نموذج يمثل القمة فى واجهات الممـاليك نجده فى واجهة محـمع السـلطان قلاوون ، واستــمرارها من بعد فى مدرســـة النـاصر نحمد (1295-1304) ثم فى مسجد السلطان برقوق (1384-1986) .
النوع الثانى من الحيزات التى تتحدث عنه al-Harithy فى هذا المقــال هو الممر الداخـلى ومهمته، الى جانب الربط بين الاجزاء ، ان يعمل كأداة من ادوات التعبير . تنتقل الحركة فى عمـــارة الممــاليك من الحيز العام فى الشــارع الى الحيز الخاص فى الداخل عبر تسلسل من الحـيزات الداخلية تسميها al-Harithy " الحيزات الانتقالية " بدء من المدخل مرورا بالردهة ثم الممر الداخلى . اضافة الى ربط الداخل بالخارج استخدمت الحيزات الانتقالية ايضا لربط الاجزاء الداخلية وتوحيدها .
"بسبب ازدياد الاهتمام بالعلاقات المتبادلة بين الحيزات الداخلية المعمارية و الخارجية الحضرية ، تتطلب تشكيل الحيزات الانتقالية عناية خاصة . اضافة الى وظيفتها الاساسية فى ربط اجزاء المبنى صارت الحيزات الانتقالية هى العنصر الاول المسئول ليس فقط عن التحكم فى ديناميكية الحركة بين الداخل والخارج بل مسئول ايضا عن توازن العلاقات الوظيفية المتداخلة بينهما وتوفير الخصوصية المطلوبة لبعض اجزاء المبنى بالداخل ."
كان اسلوب الدخول المتدرج عبر تسلسل من الحيزات الوسيطة التى تنقل الحركة من الشارع العام عبر الفناء الداخلى الى حرم الصلاة ، تقليدا اشتهرت به العمارة الاسلامية منذ العصور المبكرة مثل الجامع الاموى فى دمشق والجامع الازهر فى القاهرة . ولكن نسبة لطبيعة المخطط من طراز الايوانات والفناء الداخلى وتعدد المكونات متعددة الاغراض فى عمارة المماليك ، لم يعد المدخل المباشر فى مركز الواجهة الذى ساد من قبل ممكنا ولا عمليا . كان ضروريا ان يكون المدخل فى مجمعات المماليك موحدا ثم تنتقل الحركة عبر الردهة انتقالا متدرجا ينظم الدخول ويبعد ضوضاء الشارع ويوفر العبور نحو الخصوصية . تعمل الردهة كحيز وسيط بن العام فى الشارع والخاص بالداخل مهمتها ان تضبط الايقاع المتدرج نحو العمق عبر الممر الذى يربط مكونات المبنى مثل مجمع قلاوون ، او عبر دهليز طويل يمتد عمقا كما فى خانقة السلطان بيبرس او مدرسة السلطان حسن حسب درجة الخصوصية التى تتطلبها وظائف المبنى .
فى خانقة بيبرس يتم عبور الحــيز الانتــقالى بمراحل متدرجة بدء من الحيز الحضرى فى الشــارع . تصف al-Harithyالحيز الحضرى امام خانقة السلطان بيبرس الجاشنكير بأنه جيب حضرى تكون نتيجة لبروز الضريح فى حيز الشارع وانه يشكل جزء من الحيز الانتقالى . هنا يبدأ الحيز الانتقالى حقيقة فى الحيز الحضرى خارج المبنى ويمر بمراحـل متدرجة داخل المبنى الى ان يصل الى الفناء الداخلى . يمر الحيز الانتقالى بمراحل متدرجة بدء من الجيب الحضرى ، عبر بالمدخل الذى يؤدى الى الردهة وهى غرفة صغيرة تعمل كنقطة توصيل يتفرع منها دهليزين غير مباشرين : يتجه الاول شمالا الى ردهة الضريح والتى تؤدى الى مدخل الضريح فى محور القبلة . اما الدهليز الآخر فيتجه جنوبا ليفتح فى فناء المدرسة .
"فى خانقة بيبرس يقع الضريح فى مقدمة المبنى ولكن الردهة امام الضريح فقط هى التى لها صلة مباشرة بالشارع . تعمل الردهة ، كما كان سائدا فى تلك الفترة ، على توجيه الحركة فى اتجاه الباب المقابل للقبلة على المحور العمودى عليها . اما الخانقة التى هى مؤسسة خاصة وليست للعمامة كان مناســبا ان اتخذت موقعها فى عمق المبنى محتفظة بخصوصيتها وبعدها عن الشارع . "