Friday, 5 August 2011

التصور المعمارى واثره على البناء التشكيلى فى عمـــارة الممــاليك
القاهرة 1250- 1517

2/ اثر التصور المعمارى على البنــاء التشكيلى

فى عصر المماليك كان الصرح التذكارى هو التصور المعمارى الاول . كان الهدف الرئيسى من بناء المجمعات الحضرية هو اقامة الصرح التذكارى الذى يهدف الى تخليد ذكرى صاحب الضريح . رغم اهمية المدرسة فى تكوين المجمعات الا ان الضريح هو المكون المحورى ونقطة الارتكاز فى المجمعات الحضرية والدليل على ذلك هو تأكيد المصمم على ابراز الضريح اكثر من المكونات الاخرى وجعله مهيمنا على البناء التشكيلى وعلى العلاقات  الحضرية التى تنشأ من حوله . يؤكد ابراز الضريح الى الامام فى الحيز العام متقدما عن مستوى الواجهة اسبقية الضريح على باقى المكونات فى المجمع الحضرى .
ادرك  المعمارى البعد السياسى للضريح ،  وادرك ان للضريح بعدا آخر لا يقل اهمية وهو البعد التشكيلى الذى يمكن ان يدعم البعد السياسى ويعبر عن التصور المعمارى . يستخدم المعمارى  الابداع التشكيلى فى توصيل رسالة بصرية ذات مضمون سياسى لذلك لجأ الى دعم قدرة الضريح ، كرمز للسلطة والنفوذ ، على التعبير المعمارى وتعظيم الرسالة التى يبعثها . اتبع المعمارى فى ذلك اساليب متنوعة تراوحت بين ابراز قبة الضريح بوضعها فى موقع بارز على الشارع ؛ و بجعلها اكثر ارتفاعا بزيادة ارتفاع الرقبة باستخدام الحنيات الركنية المدرجة من اجل افضل رؤية ممكنة فى بيئة حضرية شديدة التكدس .

______________________






المسقط الافقى للمدرسة الصالحية
المصدر:   http://archnet.org/


تمثل فكرة ابراز الضريح نحو الخارج بهدف تحقيق اكبر قدر من الظهور واكبر قدر من التأثير على الحيز العام رؤية جديدة فى البناء التشكيلى تحققت لاول مرة فى ضريح الملك الصالح نجم الدين الملحق بمدرسة الصالحية وهو اول ضريح فى قلب المدينة . بنى الملك الصالح ايوب ، آخر سلاطين الدولة الايوبية ، اول مدرسة تبنى فى القاهرة للمذاهب السنية الاربعة .
اقيمت المدرسة الصالحية   1242- 1244  على جزء من موقع قصر الحكام الفاطميين فى قلب المدينة الفاطمية فى القاهرة المعروف باسم بين القصرين وهو الحى الذى شيد فيه روائع عمارة المماليك الجراكسة . يقع المدخل الرئيسى على الشارع فى مركز الواجهة الشمالية الغربية ويؤدى الى الممر الذى يربط جناحى المدرسة على يمين ويسار الممر . وضع المصمم المئذنة فوق البوابة الرئيسية لتأكيد المدخل ولخلق علاقة تشكيلية بين  العنصر الرأسى وهو المئذنة والامتداد الافقى للواجهة على يمين ويسار المدخل ولخلق نوع من التوازن مع قبة الضريح .
تمثل المدرسة الصالحية نقطة تحول رئيسة ليس فقط على صعيد التصميم المعمارى الوظيفى فى بناء المدرسة بل و البناء التشكيلى ايضا . فهى تعد تطورا اساسيا على ما سبقها ونموذجا لما  لحق فى تصميم المجمعات الحضرية فى عصر المماليك .
يمثل الضريح قمة  الابداع التشكيلى فى المدرسة الصالحية . يقع الضريح فى الركن الشمالى للمدرسة وهو عبارة عن مبنى مربع يبرز من الواجهة الشمالية الغربية وفوقه قبة مرفوعة على رقبة مثمنة .  يبرز الضريح الى الامام فى فضاء الشارع بهدف اضافة بعدا منظوريا يتوافق مع اهمية الاشارة السياسية التى يبعث بها الى الخارج . رغم ان الضريح لم يكن اصلا موجودا فى المبنى الا ان اضافته لاحقالم يخل بالتوازن فى الواجهة بل اضـاف لها بعدا تشكيليا منظوريا . حرص المعمارى على تقوية قدرة البناء التشكيلى على توصـيل تلك الرسالة بطرق متعددة مستخدما اهم ما لديه من المفردات المعمارية وابرازها فى تشكيل موحد يجمع المئذنة والبوابة الرئيسية وقبة الضريح فى تشكيل متناسق مع الواجهة يهيمن على المنظر الحضرى ويضبط الايقاع فى الفضاء العام من حولها .

_____________________________
 
فى الصالحية كان ابراز الضريح نحو الخارج فى حيز الشارع هو الوسيلة لتحقيق اكبر ظهور واقوى تأثير فى الجوار الحضرى  . فى مجمع السلطان قلاوون   1284- 1285 ايضا يركز المعمارى على اضفاء بعدا منظوريا على واجهة المبنى ولكنه يريد ابراز كل من المدرسة والضريح كجزء مستقل بذاته .
فى عمارة المماليك لم تكن الواجهة مجرد مسطحات لا عمق فيها بل كانت تعبيرات الواجهة من اهم  الاساليب التى استخدمها المعمارى فى ابداع البناء التشكيلى .  الواجهة فى مجمع قلاوون ليست مجرد غلاف للمساحات الداخلية فحسب ، بل هى جزء لا يتجزء من البناء التشكيلى الذى يتكون من جزئين هما المدرسة والضريح و يربط بينهما الممر الاوسط  الذى يوصل الى داخل الموقع حيث يوجد الجزء الثالث من المبنى وهو الماريستان . الممر هنا ليس مجرد اداة وصل الى الداخل وربط بين مكونات المبنى . بل اراد المصمم  ان يكون الممر امتدادا للطريق العام واستمرارا للواجهة الامامية الى الداخل ايضا ، وان تكون رؤية الواجهات الجانبية الطويلة للمدرسة والضريح من داخل الممر مكملة للصورة ثلاثية الابعاد التى اراد ان يرسمها لكل منهما .



المسقط الافقى لمبنى مجمع السلطان قلاوون
المصدر:  http://archnet.org/

نشأت المجمعات الحضرية فى عصر المماليك على برنامج دينى اجتماعى يتركز حول العلاقات الجــماهيرية وله اهداف سياســية واجتماعية كان على المعمارى ان يستجيب لها . صار للمبنى رسالة سياسـية لا يعبر عنها البناء التشكيلى فقط بل صار للحيز الحضرى ايضا دلالته ومقـاصده . تسـتعين Howydah al-Harithy ( 2001) فى '' '' The Concept of Space in Mamluk  Architecture
بتحليل العلاقات الوظيفية التى تنبعث فى الحيزات الحضرية فى مجمع قلاوون وما حوله ، فى تفسير معنى تلك الحيزات ودلالاتها . كتبت تقول :
" أن تعددية وظائف المجمع الحضرى وموقع الضريح فى قلب المدينة هما العنصرين الاساسيين فى سيناريو ابداع الحيز الحضرى .  بالنظر الى مواقعها فى قلب المدينة بكل ما فيها من حياة ووظائفها المتعددة صارت المجمعات الحضرية ساحات للعلاقات الاجتماعبة المكثفة . فيها يتم الاتصال واللقاء بين مختلف الفئات الاجتماعية من الطلاب والشيوخ والتجار واصحاب الحاجات والنخب من العسكريين المماليك .
بينما يبرز الضريح فى المجمعات الحضرية الى الخارج ليحقق اكبر قدر من الظهور فى الحيز العام ، جعلتها طبيعة تعدد وظائفها امتدادا للحيز العام فى الشارع . تشكل هذه العلاقة بين وظائف المجمع المتعددة فى الداخل ورسالته البصرية الموجهة للخارج ، قاعدة علاقة متبادلة يعتمد فيها المبنى وجواره الحضرى المباشر كل منهما على الآخر ."
 Howayda al-Harithy, 2001

النموذج الآخر الذى سار على خط الصالحية كان هو خانقة السللطان بيبرس الجاشنكير والذى يبرز فيه بهو المدخل امام الضريح وتكررت بنفس الصورة مرة اخرى فى مدرسة الامير سارغاتميش . بنيت خانقة بيبرس الجاشنكير (1310-1306) على الجانب الشرقى من شارع المعز لدين الله ثم اضيف الضريح لاحقا ، مثل ضريح مدرسة الملك الصالح ايوب ، بعد بناء الخانقة ، وكان طبيعيا فى الحالتين ان يحتل الضريح الجزء الامامى المطل على الشارع وان يكون ايوان الصلاة فى الطرف الخلفى من الموقع وفقا لاتجاه القبلة . مع ذلك يختلف ضريح بيبرس عن ضريح الصالحية الذى يشكل جزء مضافا الى مبنى المدرسة وله واجهة مستقلة .فى المقابل نجد ضريح بيرس عبارة عن جزء من مبنى الخانقة وواجهته ليست مطلة على الشارع مباشرة بخلاف جميع الاضرحة المملوكية فى القاهرة ، بل تتقدمه ردهة بارزة فى حيز الشارع تسمح بتعديل الواجهة لتتطابق مع خط الشارع مع الاحتفاظ بتوجه المساحات الداخلية نحو القبلة حسب التقاليد المرعية فى بناء الاضرحة المملوكية  . مهمة هذه الردهة هو توجيه الدخول الى الضريح من الاتجاه العمودى على المحراب كما فى ضريح قلاوون .

المسقط الافقى لخانقة السلطان بيبرس الجاشنكير
المصدر:  http://web.mit.edu/

فى مدرسة الامير سارغاتميش (1356) وضع الضريح فى الركن الغربى من المبنى . تتوسط الضريح قاعة مربعة الشكل تعلوها قبة ذات رقبة طويلة تشبه قباب سمرقند وضع المدفن تحتها . لا تطل قاعة المدفن على الشارع مباشرة بل يتقدمها رواق بارز الى الامام ويطل على الشارع عبر خمسة نوافذ . توصف اطلالة ضريح سارغاتميس عبر مقدمتة البارزة بانه احد اكثر معالم هذه المدرسة تميزا  . يشبه هذا الاسلوب الذى اتبع فى معالجة ضريح بيــبرس الجاشنكير عبر مقدمة بارزة ايضا ، والذى يمكن تفسيره فى الحالتين بالرغبة فى ايجاد اقوى علاقة تشكيلية ممكنة بين الضريح والمبنى والشارع لدعم الدلالة الرمزية الاجتماعية والتاريخية للصرح التذكارى .

المسقط الافقى لمدرسة الامير سارغاتميش
المصدر: http://web.mit.edu/

____________________________

No comments:

Post a Comment