Friday, 21 December 2012

تأملات ومدونات:

فى علاقة تعليم التصميم المعمارى و البحث العلمى (3)  مراجعة
لماذا اتباع الاسلوب المنهجى فى التصميم المعمارى ؟
ولكن لماذا اتباع الاسلوب المنهجى فى التصميم المعمارى ؟  هل يعنى اتباع منهج التصميم اقصاء الابداع الفنى ؟ وهل يمكن النظر الى الحل المعمارى باعتباره  يجمع الاسلوبين ؛  اسلوب الابداع الفنى الذى يوصف بالاسلوب الفطرى والاسلوب المنهجى القائم على قاعدة من البحث والتحليل ؟
يشرح بارى يات من الجامعة الامريكية الكاثوليكية فى واشنطون  النهج المتبع فى التصميم المعمارى فيقول : يوجد مدخلين مختلفين للتصميم ،  الاول المعروف باسلوب الاستوديو او الاتيلية  وهو ما يسميه بارى بنهج "black box"  او " الصندوق المقفول"  ويصـــفه بانه   the "implicit" approach، ويعرف ايضا بالاســـلوب الفطرى . اما المدخل الآخر فهو المنهج البحثى- المبنى على البحث-  ويصفه بانــه  the "explicit" approach    . يرى بارى بات ان اتباع اى من المدخلين- الاسلوب الفطرى أو المنهج البحثى-  يمكن ان يؤدي وظيفة التصميم ، ولكنه يرى ايضا ان المعمارى لا يمكن ان يطور تصميما مقنعا بدون فكر رشيد . ويوضح انه يمكن التوصل الى الحل المعمارى بالاسلوب الفطرى بشرط ان يكون بناءه  على قاعدة من  البحث و التحليل ) بارى يات .  ( وهذا ما يذهب اليه دعاة الجمع بين العقلانى والابداعى فى التصميم .
يفرق العلماء بين صنفين من المعلومات: الاول هو explicit knowledge ويشمل المعلومات والحقائق والنظريات المدونة نصا فى شتى وسائل النشر المعروفة ؛ والصنف الآخر هو implicit knowledge وهو المعرفة الشخصية مثل الخبرة او التجربة التى تعتمد على الممارسة كما فى العمارة والفنون والحرف المختلفة . التفاعل بين هذين النوعين من المعلومات ، فى عملية التصميم المعمارى ، مهم جدا للتصميم  الناجح و لا يمكن عمليا الفصل بين المكون من المعرفة الشخصية وبين المعلومات من المصادر المنشورة والبحث الميدانى . بل يذهب بعض الكتاب فى مجال المعلومات ( Richard T. Herschel et al., 2001) الى الزعم بان تجاهل التفاعل بين explicit knowledge و implicit knowledge يعطل الابداع .
 بالعودة الى رأى بارى يات يمكن تفسيره بان كلا الاسلوبين ، الاسلوب الفطرى والمنهج البحثى فى التصميم  يقومان على قاعدة من المعرفة والتحليل . ربما يتم الاسلوب الفطرى بالاعتماد على القدرة غير العادية لدى بعض المبدعين على استيعاب المعرفة والتحليل والابداع فى داخل العقل البشرى بصورة فردية . اما الثانى وهو منهج البحث فهو ايضا يعتمد على المعرفة والتحليل والابداع الذى يقوم به فرد أو مجموعة ولكن عبر برنامج مسبق الاعداد .

لماذا اتباع الاسلوب المنهجى فى التصميم المعمارى ؟ هناك من الدليل على ان  ما نسميه اليوم فلسفة التصميم او التصور المعمارى "the concept" كان متبعا منذ الحضارات القديمة وحتى النهضة . يبدوا هذا واضحا فى تطور بناء المقابر الملكية الفرعونية  و تطور عمارة المعابد القديمة من المصرية الى اليونانية ثم الرومانية ، ويشهد بهذا ايضا تطور تصميم الكاتدرائية والمدرسة الجامع فى عصر المماليك .  ساد بعد النهضة ، وحتى ظهور حركة التجديد modernism فى القرن  العشرين ، الاســلوب الذى كثيرا ما يوصف بتعبير "black box"  او الصندوق المقلق .
يصف رودس هلمان (1998) نقلا عن جون كريس (1970) فى عبارات قاطعة ومحددة اسلوب "الصندوق المغلق" بانه الاسلوب الذى فيه التصميم ليس واضحا الا للمصمم ، واحيانا لم يكن المصمم يدرك كيف توصل هو نفسه الى التصميم  ولا يستطيع ان يوضح التفسير العقلانى للاساس الذى بنى عليه قرارات التصميم .
لم يعد هذا الاسلوب مناسبا اليوم على الاقل فى كل الحالات . مع تزايد تعقيدات المشروعات المعمارية صار غير ممكنا ولا حتى مجديا  ان يتصدى فرد واحد مهما كانت قدراته الابداعية والذهنية للحل المعمارى بمفرده . كان هذا ممكنا فى الماضى وادى  الى ابداعات بالاديو فى النهضة و كوربوزيية من رواد العمارة الحديثة فى مطلع القرن العشرين .

ان اتباع ما نسميه اليوم فلسفة التصـــميم او التصـــور المعمارى "the concept" لا يعنى الاتجاه نحو استبعاد  الابداع الفنى من عملية التصميم بل العكس تماما هو المطلوب فالتصميم يحتاج التفكير العقلانى والابداع الفنى معا . ربما يكون هذا التفسير- الذى ينظر الى التصميم المعمارى باعتباره يجمع بين العقلانى والابداعى- هو الاتجاه الاكثر انتشارا بين الكتاب فى الغرب الآن . لعل اول من رأى هذا التفسير كان هو جون كريس (1970)  ثم تبعه معظم الكتاب فى منهج التصميم فى الهندسة . رغم ان العمارة هى الاقرب للمفهوم الذى يجمع بين التفكير العقلانى والابداع  فى التصميم ، لم اجد فيما ينشر ه الكتاب فى منهج التصميم المعمارى من يتبنى هذا الرأى . بينما يرى كثير من الكتاب مثل
 ) هيرنان كاساكن ، 2008 ؛ بيتر كروس ،  2010 ) ان حل مشكلة التصميم فى الهندسة هو نهج ابـــداعى .
 

Thursday, 13 December 2012

تأملات ومدونات:

 
فى علاقة تعليم التصميم المعمارى و البحث العلمى  (2) مراجعة ثانية
لماذا اتباع الاسلوب المنهجى فى التصميم المعمارى ؟
يبدوا  ان هناك عدم رضــاء متزايد عن الوضع الحالى فى تعليم التصميم المعمارى حول العالم . صار تعليم العمارة فى الفترة الاخيرة فى مركز اهتمام الباحثين الذين يوجهون النقد نحو توجه برامج الاستوديو واسلوب التدريس . يرى هؤلاء ان تعليم العمارة ينبغى ان يكون اكثر استجابة لاحتياجات المجتمع .
كشفت الدراسات مؤخرا ان معظم النقد الموجه لتعليم العمارة يتركز على الاتجاه السائد فى معظم دول العالم والذى ينظر الى العمارة باعتبارها شكل من اشكال الفنون الجميلة الذى يعتمد اكثر على الابداع  والمهارات الفنية ويرجعون ذلك الى تأثير مدرسة باريس للفنون الجميلة Ecole des Beaux-Arts على الاصول التاريخية لنشأة تعليم العمارة حول العالم والذى لا يزال باقيا حتى اليوم . يدل على ذلك  ان استوديو العمارة لا يزال يسيطر عليه الاهتمام بالشكل المعمارى على حساب دور المعمارى فى المجتمع وموقفه من القضايا العامة. 
المعروف ان تعليم العمارة نشأ فى الغرب ، اولا ثم كل العالم ، على نموذج مدرسة الفنون الجميلة فى باريس الذى يتخذ الابداع الفنى منهجا . رغم التحول عن هذا الاتجاه منذ النصف الاول من القرن العشرين الا ان اثر ذلك الارث على تعليم التصميم المعمارى لا يزال باقيا الى يومـنا هذا فى كثير من مدارس العمارة حول العالم . يوضح Brown and Yates   (2007)ان هناك اتجاهين رئيسيين برزا عبر سنوات كثيرة فى تعليم العمارة هما: اسلوب الفنون الجميلة الذى يعنى بابداع الشكل المعمارى ، والآخر الذى يعنى اكثر بدور المعمارى فى المجتمع .
 ادى عدم التوازن بين هذين الاتجاهين الى كثير من النقد فى الغرب . يرى النقاد ان المعمـاريين صـاروا فى معزل عن اهداف المجتمع وانهم قليلا ما يهـــتمون بغير التعبير الذاتى وارضـــــــــاء النفس    (Brown and Yates, 2007) .  يبدو ان هناك صلة ما بين اسلوب التعبير الفردى والاعتماد على الابداع الفنى من جهة ، يقابله اسلوب التصميم المبنى على البحث والتحليل والاهتمام بدور المعمارى فى المجتمع من جهة اخرى .

لا تختلف الصورة فى استوديو التصميم فى الخرطوم كثيرا عن الوضع فى معظم دول العالم  . فقد تزايدت الشكوى مؤخرا ، فى بعض مدارس العمارة ، من تدنى مستوى اداء الطلاب لاسباب معروفة ظل يرددها معلمى الاستوديو منها ازدياد عدد الطلاب وقلة عدد المعلمين واخرى تتعلق بمستوى التعليم قبل الجامعى وسياسات القبول وسياسة ترقى الطلاب الى المستوى الاعلى فى مدارس العمارة  ، بالاضافة الى اسباب لم تكن مطروحة من قبل منها توجهات الاستوديو واختيار نوعية المشروعات التى تمثلها ومنهجية التصميم التى يتبعها الطلاب . كثر النقاش مؤخرا بين معلمى الاستوديو حول الاسباب المتعلقة بالاداء داخل الاستوديو وصاروا يشيرون صراحة الى اسلوب التدريس التقليدى الذى لم يتغير كثيرا منذ عقود .

تعليم اساسيات التصميم المعمارى  لطلبة السنة الاولى
يجرى كثير من النقاش فى الاستوديو حول برنامج تعليم اساسيات التصميم المعمارى الذى يدرس للسنة الاولى يشمل محتوى البرنامج واسلوب تدريسه وطريقة ربطه بما يتعلمه الطلاب فى المرحلة الثانية وهى بداية تعلم التصميم المعمارى . المعروف ان برنامج اساسيات التصميم المعمارى فى معظم مدارس العمارة مستمد من  نموذج "اسس التصميم " basic design  الذى طورته مدرسة الباوهاوس والذى يركز على التشكيل التجريدى الثنائى والثلاثى الابعاد باعتباره الاهتمام الرئيسى فى بداية تدريس استوديو التصميم . ازداد فى السنوات الاخيرة النقد الموجه نحو  برنامج اسس التصميم  بعد ان صار الطلاب يتخذون  من التشكيل المعمارى هدفا فى حد ذاته وليس اداة لابداع التصميم  .
رغم قبول النقاد بان التشكيل الثلاثى الابعاد يمكن  ان يساعد الطلاب على تطوير القدرة على الابداع ، الا انهم يرون ان التدريب على التشكيل التجريدى يمكن ان يتحول بسهولة الى تمرينا فى المهارات الفنية وينسينا ان للحيز المعمارى هدفا يتعدى مجرد التشكيل العمارى . يخلص النقاد الى ان محتوى برامج الاستوديو فى بداية تعليم التصميم المعمارى ينبغى ان يتم صياغته وتدريسه بالصورة التى تقود الى الادراك ان تشكيل الحيز المعمارى ليس هو الهدف فى حد ذاته بقدر ما هو وسيلة لابداع بيئة افضل لحياة الانسان  (Guita Farivarsadri, 2001).



التصور المعمارى والتصميم المنهجى
يرى البعض ان اسلوب التدريس التقليدى فى الاستوديو هو المسئول عن ضعف اهتمام الطلاب باسلوب التصميم المبنى على البحث والتحليل- الذى نصفه بتعبير "التصميم المنهجى " - والاعتماد اكثر على اسلوب الابداع الفطرى ، مما ادى الى التركيز على الشكل المعمارى والاهتمام المفرط احيانا باسلوب العرض والاظهار كمنتج اخير بصرف النظر عن الفكرة  او "التصور المعمارى" .
فى الخرطوم رغم ان منهج البحث والتحليل كأساس للتصميم المعمارى يبدو تقليدا تاريخيا فيها ، الا ان الطلاب ، فى بعض مدارس العمارة ، صاروا لا يهتمون باتباع المنهج و يفضلون القفز  الى التصميم بالاعتماد على الابداع الفطرى واستخدام المهارات الفنية . لذلك لم نجد للبحث والتحليل سوى اثر محدود فى بناء قاعدة الحل المعمارى فى مشروعات الطلاب كما يشهد تقرير الممتحنين لطلبة البكلوريوس . يرجح ذلك لاسباب كثيرة منها ضعف الاهتمام بالدراسات الخاصة بمنهج البحث والتحليل و عدم وضوح اهداف الاستوديو ، الا ان السبب المباشر هو تدنى درجة تقييم البحوث مقارنة بدرجات التسليم النهائى للمشروعات حيث يمثل نحو 20% فقط من المشروع فى معظم الحالات .
 

Thursday, 6 December 2012

تأملات ومدونات:

تأملات ومدونات: فى علاقة تعليم التصميم المعمارى و البحث العلمى  (2) مراجعة

لماذا اتباع الاسلوب المنهجى فى التصميم المعمارى ؟
يبدوا  ان هناك عدم رضــاء متزايد عن الوضع الحالى فى تعليم التصميم المعمارى حول العالم . صار تعليم العمارة فى الفترة الاخيرة فى مركز اهتمام الباحثين الذين يوجهون النقد نحو توجه برامج الاستوديو واسلوب التدريس . يرى هؤلاء ان تعليم العمارة ينبغى ان يكون اكثر استجابة لاحتياجات المجتمع .
كشفت الدراسات مؤخرا ان معظم النقد الموجه لتعليم العمارة يتركز على الاتجاه السائد فى معظم دول العالم والذى ينظر الى العمارة باعتبارها شكل من اشكال الفنون الجميلة الذى يعتمد اكثر على الابداع  والمهــارات الفنية ويرجعون ذلك الى تأثير مدرســة باريس للفنون الجميلة Ecole des Beaux-Arts على الاصول التاريخية لنشأة تعليم العمارة حول العالم والذى لا يزال باقيا حتى اليوم . يدل على ذلك  ان استوديو العمارة لا يزال يسيطر عليه الاهتمام بالشكل المعمارى على حساب دور المعمارى فى المجتمع وموقفه من القضايا العامة. 
المعروف ان تعليم العمارة نشأ فى الغرب ، اولا ثم كل العالم ، على نموذج مدرسة الفنون الجميلة فى باريس الذى يتخذ الابداع الفنى منهجا . رغم التحول عن هذا الاتجاه منذ النصف الاول من القرن العشرين الا ان اثر ذلك الارث على تعليم التصميم المعمارى لا يزال باقيا الى يومـنا هذا فى كثير من مدارس العمارة حول العالم . يوضح Brown and Yates   (2007)ان هناك اتجاهين رئيسيين برزا عبر سنوات كثيرة فى تعليم العمارة هما: اسلوب الفنون الجميلة الذى يعنى بابداع الشكل المعمارى ، والآخر الذى يعنى اكثر بدور المعمارى فى المجتمع .
 ادى عدم التوازن بين هذين الاتجاهين الى كثير من النقد فى الغرب . يرى النقاد ان المعمـاريين صـاروا فى معزل عن اهداف المجتمع وانهم قليلا ما يهـــتمون بغير التعبير الذاتى وارضـــــــــاء النفس    (Brown and Yates, 2007) .  يبدو ان هناك صلة ما بين اسلوب التعبير الفردى والاعتماد على الابداع الفنى من جهة ، يقابله اسلوب التصميم المبنى على البحث والتحليل والاهتمام بدور المعمارى فى المجتمع من جهة اخرى .

لا تختلف الصورة فى استوديو التصميم فى الخرطوم كثيرا عن الوضع فى معظم دول العالم  . فقد تزايدت الشكوى مؤخرا ، فى بعض مدارس العمارة ، من تدنى مستوى اداء الطلاب لاسباب معروفة ظل يرددها معلمى الاستوديو منها ازدياد عدد الطلاب وقلة عدد المعلمين واخرى تتعلق بمستوى التعليم قبل الجامعى وسياسات القبول وسياسة ترقى الطلاب الى المستوى الاعلى فى مدارس العمارة  ، بالاضافة الى اسباب لم تكن مطروحة من قبل منها توجهات الاستوديو واختيار نوعية المشروعات التى تمثلها ومنهجية التصميم التى يتبعها الطلاب . كثر النقاش مؤخرا بين معلمى الاستوديو حول الاسباب المتعلقة بالاداء داخل الاستوديو وصاروا يشيرون صراحة الى اسلوب التدريس التقليدى الذى لم يتغير كثيرا منذ عقود .
يرى البعض ان اسلوب التدريس التقليدى فى الاستوديو هو المسئول عن ضعف اهتمام الطلاب بمنهج التصميم المبنى على البحث والتحليل واعتمادهم اكثر على اسلوب الابداع الفطرى ، مما ادى الى التركيز على الشكل المعمارى والاهتمام المفرط احيانا باسلوب العرض والاظهار كمنتج اخير بصرف النظر عن الفكرة .
فى الخرطوم رغم ان منهج البحث والتحليل كأساس للتصميم المعمارى يبدو تقليدا تاريخيا فيها ، الا ان الطلاب ، فى بعض مدارس العمارة ، صاروا لا يهتمون باتباع المنهج و يفضلون القفز  الى التصميم بالاعتماد على الابداع الفطرى واستخدام المهارات الفنية . لذلك لم نجد للبحث والتحليل سوى اثر محدود فى بناء قاعدة الحل المعمارى فى مشروعات الطلاب كما يشهد تقرير الممتحنين لطلبة البكلوريوس . يرجح ذلك لاسباب كثيرة منها ضعف الاهتمام بالدراسات الخاصة بمنهج البحث والتحليل و عدم وضوح اهداف الاستوديو ، الا ان السبب المباشر هو تدنى درجة تقييم البحوث مقارنة بدرجات التسليم النهائى للمشروعات حيث يمثل نحو 20% فقط من المشروع فى معظم الحالات .