Friday 12 August 2011

قـــــــــــــــــراءات

تشكيل الحــيز المعــمارى فى عصر المــماليك: التعبير ودلالته


Howayda al-Harithy, 2001. The Concept of Space in Mamluk Architecture. Moqarnas Vol. XVIII. http://ArchNet.org/library.
نشأت المجمعات الحضرية فى عصر المماليك على برنامج دينى اجتماعى يتركز حول العلاقات الجماهيرية وله اهداف ثقافية واجتماعية وسياسية يعكسها التصور المعمارى . اضافة الى وظائفه الدينية والتعليمية صار للمبنى رسالة بصرية تعكس مضمون التصور المعمارى ويعبر عنها الشكل المعـــــــمارى . من افضل ما قرأت فى تفسير دلالة الحــيز الحضرى فى عمارة المماليك ما كتبته  Howayda al-Harithy فى مقال لها بعنوان:
''The Concept of Space in Mamluk Architecture''
 

هناك مجموهة من العوامل الثقافية والاجتماعية والسياسية تكون فى مجموعها التصور المعمارى الذى يمثله الشكل المعمارى بمعناه العريض الذى يشمل البـــناء التشكيلى كله بما فيه الحيزات المعــــمارية والحيزات الحضرية فى المحيط المــــباشر . يتطلب فهم دلالة ما تمثله الحيزات المعمارية ايجاد علاقة بين شكل الحيزات ، واسلوب تجميعها وحركة المناشط فيها . تعتمد هذه العلاقة على دراسة اثر العوامل الثقافية والاجتماعية والسياسية الدافعة لابتكار تلك الحيزات ، والمحددة لشكلها واسلوب تجميعها ، والمحركة للمناشط فيها . يتعرض مقال  al-Harithy بالتحليل لاثر هذه العوامل على شكل الحيزات واسلوب تجميعها واتجاهات الحركة فيها ، وتستعين بذلك على توضيح اسلوب الحيزات المعمارية والحضرية فى التعبير عن فلسفة التصور المعمارى . كتب المقال باسلوب انسيابى لا يتوقف عند حدود اقسام معينة او عناوين جانبية تعين الدارس على تتبع التحليل بسهولة ، ولكنه فى ذات الوقت اسلوب يشبه السرد القصصى و لا يخلو من المتعة  للقارىء . تقول الكاتبة:
" أن تعددية وظائف المجمع الحضرى وموقع الضريح فى قلب المدينة هما العنصرين الاساسيين فى سيناريو ابداع الحيز المعمارى .  بالنظر الى مواقعها فى قلب المدينة بكل ما فيها من حياة ، ووظائفها المتعددة صارت المجمعات الحضرية ساحات للعلاقات الاجتماعبة المكثفة . فيها يتم الاتصال واللقاء بين مختلف الفئات الاجتماعية من الطلاب والشيوخ والتجار واصحاب الحاجات والنخب من العسكريين المماليك ."

كان من الطبيعى ان يؤدى تدفق العلاقات الاجتماعية فى المجمع الحضرى على هذا النحو الى تولد تيار من الحركة بين المبنى وجواره الحضرى ، فتنشأ بينهما علاقة متبادلة فى اتجاهين: الاول ، نحو الداخل وهو تأثير الحركة فى الشارع على وظائف المبنى داخليا ؛ والثانى ، باتجاه الخارج، وهو تأثير المبنى نفسه على الحيز العام . تبرز اهمية هذه العلاقة المزدوجة فى اثرها على شكل الحيزات الداخلية والخارجية واسلوب تجميعها . ينظر هذا الجزء الى العلاقات الوظيفية وحركة المناشط ويتتبع اثرها فى ربط الحيزات الداخلية والخارجية وفى العلاقة العضوية والبصرية المتداخلة بينهما .
" نتيجة تعدد وظائف المجمع الحضرى صار الحيز المعمارى الداخلى امتدادا للحيز العام فى الشارع ،  بينما يبرز الضريح الى الخارج ويحقق اكبر قدر من الظهور فى الحيز العـام والتفاعل معه . وأدى هذا التفاعل الوظيفى بين المبنى وجواره الحضرى الى توحد الحيزات فيهما فى وحدة تشكيلية واحدة . "
ادى التفاعل الوظيفى بين المبنى وجواره الحضرى ليس الى دمج الحيزات فيهما فى وحدة تشكيلية واحدة فقط ، بل تعدى ذلك ليشمل توحد الواجهات الداخلية والخارجية ايضا . نسبة لطبيعة مواقع المجمع الحضرى فى قلب القاهرة فى العصور الوسطى والقيود التى تفرضها على التصميم كان الخيار المتاح هو اللجوء الى المخطط المفتوح للداخل واستخدام صيغة الفناء فى بناء المجمعات الحضرية . الملاحظ ان المعمارى فى عصر المماليك اتبع تقاليد كانت سائدة فى العصور التى سبقت عصر المماليك فى التعامل مع الواجهات الداخلية . فى الفترات السابقة كان الاهتمام فى المبانى السكنية بالواجهات الداخلية المطلة على الفناء اكثر من الواجهات المطلة على الشارع ، وذلك ضمن استراتيجية فصل الداخل فصلا تاما عن الشارع لدواعى الخصوصية . فى مجمعات المماليك الحضرية كان التوجه نحو التعامل مع الواجهات الداخلية المطلة على الفناء باعتبارها ليس امتدادا للواجهات الحضرية بالخارج فحسب ، بل جزء اساسيا فى البناء التشكيلى للمجمع الحضرى .  

المعروف ان وظائف المبنى هى المحدد الرئيسى للشكل المعمارى .  فى العمارة الاسلامية ليست الوظائف العادية  المتعلقة بالمناشط الاجتماعية مثل التعليم والعبادة وغيرها فقط هى المسئول عن تحديد الشكل المعمارى ، بل ان وظيفة  التعبير عما تمثله الحيزات المعمارية ، التصور المعمارى ، يلعب دورا اساسيافى تحديد شكل تلك الحيزات .
ســـاد فى عصر المماليك اشكالا متـــنوعة من الحيزات مهمتها ، الى جانب الربط بين الاجزاء ، ان تبعث برســـالة بصرية تعبر عن مضــمون التصور المعــمارى . اول هذا النوع من الحــيزات هو  ما تســميه al-Harithy "الجيب الحضرى" وهو عــبارة عن تغير فى مجرى الشارع المحدود يحدث فيه اتساعا يقع بين ضفتى المبانى على جانبى الطريق يواصل الشارع بعدها مساره من جديد . لم يكن الشارع فى المدن الاسلامية فى العصور الوسطى مستقيما بل كان مألوفا ان يعترض مسارة انحناء طارئا يغير اتجاهه وشكله واتساعه . الجيب الحضرى الذى يعترض شارع المعز عندما يمر بموقع مجمع قلاوون مثل ذلك وهو احد وسائط التعبير فى عمارة المماليك ، من اغراضه توجيه الحركة نحو المدخل الرئيسى و تهيئة حيزا مناسبا للتواصل الاجتماعى .
الجيب الحضرى الذى تشكل امام مجمع قلاوون عبارة عن ساحة صغيرة " ...تكتسب خصائصها الحضرية من البناء التشكيلى على ضفتيها ومن تعبير واجهات مجمع قلاوون على جانب من الشارع وواجهة المدرسة الصالحية المقابلة لها على الجانب الآخر ، وتكتسب خصوصيتها من احتوائها بين هذين الصرحين التذكاريين ."
احد وسائط التعبير المتعددة التى ابتكرها المعمارى فى عصر المماليك هو الممر الداخلى الذى يربط الحيزات الداخلية بالخارج وهو ما تســميه al-Harithy الحيز الانتقالى . استخدم المعمارى الحيزات الانتقالية ليس لمجرد ربط الاجزاء الداخلية وتوحيدها ، بل كأداة من ادوات التعبير عن التصور المعمارى .
"بسبب ازدياد الاهتمام بالعلاقات المتبادلة بين الحيزات الداخلية المعمارية و الخارجية الحضرية ، تتطلب تشكيل الحيزات الانتقالية عناية خاصة . اضافة الى وظيفتها الاساسية فى ربط اجزاء المبنى صارت الحيزات الانتقالية هى العنصر الاول المسئول ليس فقط عن التحكم فى ديناميكية الحركة بين الداخل والخارج بل مسئول ايضا عن توازن العلاقات الوظيفية المتداخلة بينهما وتوفير الخصوصية المطلوبة لبعض اجزاء المبنى بالداخل ."

كان اسلوب الدخول المتدرج عبر تسلسل من الحيزات الوسيطة التى تنقل الحركة من الشارع العام  عبر الفناء الداخلى الى حرم الصلاة ، تقليدا اشتهرت به العمارة الاسلامية منذ العصور المبكرة مثل الجامع الاموى فى دمشق والجامع الازهر فى القاهرة . ولكن نسبة لطبيعة المخطط من طراز الايوانات والفناء الداخلى وتعدد المكونات متعددة الاغراض فى عمارة المماليك ، لم يعد المدخل  المباشر فى مركز الواجهة الذى ساد من قبل ممكنا ولا عمليا . كان ضروريا ان يكون المدخل فى مجمعات المماليك موحدا ثم تنتقل الحركة عبر الردهة انتقالا متدرجا ينظم الدخول ويبعد ضوضاء الشارع ويوفر العبور نحو الخصوصية . تعمل الردهة كحيز وسيط بن العام فى الشارع والخاص بالداخل مهمتها ان تضبط الايقاع المتدرج نحو العمق عبر الممر  الذى يربط مكونات المبنى مثل مجمع قلاوون ، او عبر دهليز طويل يمتد عمقا كما فى خانقة السلطان بيبرس او مدرسة السلطان حسن حسب درجة الخصوصية التى تتطلبها وظائف المبنى .

فى خانقة بيبرس يتم عبور الحيز الانتــقالى بمراحل متدرجة بدء من الحيز الحضرى فى الشـــارع . تصف  al-Harithy الحيزالحضرى امــام خانقة الســلطان بيبرس الجاشــنكير بأنه جيب حضرى تكون نتيجة لبروز الضريح فى حيز الشارع وانه يشكل جزء من الحيز الانتقالى  . هنا يبدأ الحيز الانتقالى حقيقة فى الحيز الحضرى خارج المبنى ويمر بمراحـل متدرجة داخل المبنى الى ان يصل الى الفناء الداخلى . يمر الحيز الانتقالى بمراحل متدرجة بدء من الجيب الحضرى ، عبر بالمدخل الذى يؤدى الى الردهة وهى غرفة صغيرة تعمل كنقطة توصيل يتفرع منها دهليزين غير مباشرين : يتجه الاول شمالا الى ردهة الضريح والتى تؤدى الى مدخل الضريح فى محور القبلة . اما الدهليز الآخر فيتجه جنوبا ليفتح فى فناء المدرسة .  
"فى خانقة بيبرس يقع الضريح فى مقدمة المبنى ولكن الردهة امام الضريح فقط هى التى لها صلة مباشرة بالشارع . تعمل الردهة ، كما كان سائدا فى تلك الفترة ، على توجيه الحركة فى اتجاه الباب المقابل  للقبلة على المحور العمودى عليها . اما الخانقة فتتخذ موقعها فى عمق المبنى محتفظة بخصوصيتها وبعدها عن الشارع . "



No comments:

Post a Comment